لعب اليهود أدواراً متنوعة خلال الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية، وذلك بحكم وجودهم لدى طرفي الصراع، سواء في أوروبا أو بلاد الشرق، لكن الملاحظ هو التناقضات التي سيطرت على هذه الأدوار، فرغم أنهم مولوا الحملات فإنهم تعرضوا للاضطهاد والقتل من قبل الجنود الصليبيين.
ويذكر الدكتور رياض مصطفى أحمد شاهين، في دراسته «أوضاع اليهود وموقفهم من الغزو الصليبي لبلاد الشام (491- 690هـ / 1098- 1291م)»، أن الوثائق التاريخية أظهرت مدى التعاون الوثيق بين اليهود وملوك أوروبا خلال الحملات الصليبية، حتى إنه أطلق عليهم لقب «يهود الملوك» نتيجة العلاقات التي استفاد منها اليهود والملوك أيضاً. فالملوك اعتمدوا على اليهود في دعمهم بالأموال والسيولة النقدية التي كانت الحملات الصليبية في أمس الحاجة لها، أما اليهود فأصبح نفوذهم أعظم بكثير، لدرجة أن مركزهم الديني والاقتصادي انتقل من الشرق إلى الغرب المسيحي خلال فترة الحروب الصليبية.
يبدو أن هذه العلاقة كانت سبباً في تأجيج مشاعر الكراهية ضد اليهود، بل ومعاناتهم واضطهادهم على أيدي المسيحيين في أوروبا، خصوصاً إبان الدعوة والتحضير للحروب الصليبية على المشرق الإسلامي. يشرح شاهين أن اليهود لعبوا دوراً مهماً في النشاطات التجارية التي مارسوها على طول الخطوط الدولية بين الشرق والغرب، مما عاد عليهم بالثراء وامتلاك سيولة مالية مكّنتهم من العمل بالربا وإقراض المسيحيين الأوربيين بفوائد عالية، في الوقت الذي كانت تعاني منه أوروبا منذ عام 393هـ/ 1000م من أزمة اقتصادية خانقة.
وعندما اشتعلت نيران الحروب الصليبية اضطر الفرسان الذين تطوعوا للمشاركة في هذه الحملات إلى الاقتراض من المرابين اليهود لتسليح أنفسهم، وذلك بفوائد عالية وصلت أحياناً إلى 50%، مما أدى إلى زرع الكراهية والحقد بين الجنود الأوروبيين تجاه اليهود، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا، وهو ما يفسر بعد ذلك حدوث مجازر وتصفيات جسدية واضطهاد تعرض له اليهود في الغرب المسيحي طوال فترة الحروب الصليبية.
بيد أن عاملاً دينياً آخر يفسر ما تعرض له اليهود من اضطهاد خلال الحروب الصليبية، إذ يذكر شاهين أن المسيحيين الأوروبيين كانوا ينظرون لليهود نظرة عداء، باعتبارهم الذين اضطهدوا المسيح وقتلوه بحسب معتقداتهم، لذا رأوا أن ما قاموا به ضد اليهود هو عمل انتقامي لما فعلوه في حق المسيح، ومن ثم أعلن الصليبيون الألمان عن نيتهم تطهير الطريق إلى بيت المقدس من اليهود.
ويمكن القول، إن الغطاء الديني الذي وفرته الحركة الصليبية للغضب ضد اليهود لقتلهم المسيح منح الفرصة للصليبيين، بخاصة الغوغائيون منهم، بالانتقام من هؤلاء اليهود المرابين المستغلين.
غير أن اليهود لعبوا أيضاً دوراً ليس بالبسيط في تعميق الفجوة بينهم وبين المسيحيين في أوروبا، إذ عاشوا وانعزلوا في مجتمعات وأحياء مغلقة أطلق عليها «جيتو»، مما قلل اختلاطهم بالمسيحيين، وبالتالي زادت الشبهات والشكوك حولهم، ونُظر إليهم باعتبارهم مجتمعاً منغلقاً يتآمر على ما حوله من جماعات مخالفة له في الدين والمصالح الحياتية، بحسب شاهين.
ويبدو أن عدداً من اليهود استقرؤوا شواهد كثيرة تشير إلى خطورة الحملات الصليبية على أوضاعهم، فاتخذوا موقفاً مخالفاً لفكرة هذه الحروب، ووقفوا موقفاً عدائياً منها. ففي ديسمبر عام 1095م/ 488هـ، أي في الشهر التالي مباشرة لإلقاء أوربان الثاني خطابه الشهير الذي أعلن فيه بدء الحروب الصليبية، كتب بعض اليهود القاطنين في شمال فرنسا إلى إخوانهم في ألمانيا يحذرونهم من أخطار هذه الحروب التي ستعود بالضرر على نشاطهم المالي، ليس في الغرب الأوروبي فحسب، بل وفي الشرق أيضاً.
على كلٍ، تحركت جموع الحملة الصليبية الأولى الشعبية عام 490هـ/ 1096م عبر الراين وعلى امتداد نهر الدانوب، وفي أثناء الزحف ارتكب الصليبيون أبشع أنواع الجرائم والاضطهاد ضد اليهود من مذابح مروعة، فقد أبيدت وبقسوة كل الجماعات اليهودية التي كانت تسكن أراضي الراين منذ زمن الرومان وقبل أن تستقر القبائل الجرمانية في هذه المناطق، بحسب ما يذكر المؤرخ اليهودي يوشع براور في كتابه «الاستيطان الصليبي في فلسطين... مملكة بيت المقدس»، وترجمه للعربية الدكتور عبدالحافظ البنا.
وبحسب براور، حاول الأساقفة في كل الأقاليم الأوروبية حماية الجماعات اليهودية من موجة الاعتداءات والاضطهادات الصليبية، وذلك من خلال إدانة هذه الممارسات الصليبية تارة، وتارة أخرى من خلال الرشوة التي كان يقدمها اليهود لرجال الدين المسيحي. ومع بعض الاستثناءات، لم تكن هاتان الوسيلتان ذات جدوى.
وكانت الطريقة الوحيدة التي كانت توفر الحماية لليهود هي اشتراكهم في قتال المسلمين خارج أوروبا، وعندئذ كان يتحتم على هذا المحارب ترك أملاكه ومنزله تحت حماية رجال الكنيسة. ويذكر براور، أصبح أمام الجماعات اليهودية أحد الاختيارين، إما الارتداد عن العقيدة اليهودية أو الموت، وفي هذا السياق تم تعميد بعض اليهود عنوة تحت تهديد السلاح، فيما اختار البعض الموت، كما قام بعض اليهود بقتل زوجاتهم وأطفالهم وقتل أنفسهم أيضاً في شكل طقس قربان للهروب من بطش الجنود المسيحيين.
لم يختلف أمر اليهود كثيراً في بلاد الشام وفلسطين. فيروي حسام حلمي الأغا في دراسته «الأوضاع الاجتماعية في فلسطين زمن الحروب الصليبية (492-690هـ/ 1099-1291)»، أنه في أواخر القرن الـ11 الميلادي/ الخامس الهجري بدأت التجمعات اليهودية في بلاد الشام تقل وتنحصر في 10 مراكز موزعة على المدن الساحلية الكبرى وفي الرملة وطبرية والقدس، كما قل عددهم كثيراً مقارنة بما كان عليه في منتصف القرن المذكور.
ويبدو أن ذلك راجع في الأساس إلى الأنباء الواردة عن المذابح المرتكبة في الغرب ضد اليهود، وقرب وصول الصليبيين إلى بلاد الشام، إضافة إلى الخطابات والتحذيرات التي وصلت اليهود من إخوانهم سواء في الغرب أو في الشرق تحذرهم من الصليبيين. ففي أعقاب وصول الصليبيين إلى الساحل اللبناني عام 491هـ/ 1099م وصل خطاب من مدينة رفح جنوب مدينة غزة بصحبة أحد سكانها من اليهود، يطلب من إخوانه اليهود في مدينة القدس أن يهربوا إلى مدينة عسقلان خوفاً من الخطر الصليبي، مما يفسر أسباب الهجرة الجماعية التي قامت بها الجاليات اليهودية من بعض المدن المهمة مثل رام الله ويافا.
وبحسب الأغا، اتخذ اليهود من الغزو الصليبي موقفاً معارضاً من الوجود الصليبي في بلاد الشام، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا رجال مقاومة شعبية أو انضموا إلى الجيش الإسلامي المقاوم للغزو الصليبي كما يصورهم البعض.
ويذكر الأغا، أن بعض المصادر أشارت إلى أن اليهود قرروا التحزب إلى جانب السكان المسلمين ومقاومة الصليبيين الذين قتلوا إخوانهم في أوروبا، رغم أن أياً من المصادر العربية المعاصرة أو حتى اللاحقة أو المصادر الفرنجية المباشرة لم تذكر شيئاً عن مشاركة اليهود إلى جانب المقاومة الشعبية في بلاد الشام، باستثناء إشارة المؤرخ الفرنجي ألبرت ديكس في كتابه «تاريخ بيت المقدس» عن دور اليهود في مقاومة الصليبيين في حيفا.
وينقل الأغا عن ديكس قوله، إنه بعد نجاح الصليبيين في اقتحام مدينة القدس ارتكبوا فيها مجزرة مروعة، وجمع الصليبيون اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، أما من نجا منهم فقد تم بيعه كعبيد، ثم قام اليهود في مصر بافتداء أعداد كبيرة منهم بالمال في عسقلان.
كما تصدى سكان مدينة حيفا المسلمون واليهود للحصار الذي فرضه الفرنجة على المدينة 493هـ/ 1100م. ويشير ديكس إلى أن المسلمين قاموا بتزويد اليهود من سكان مدينة حيفا بالسلاح والعتاد من أجل الإسهام إلى جانبهم في الدفاع عن المدينة التي كانت محصنة بالأسوار والأبراج.
وليس من شك أن تردي الحالة النفسية لدى اليهود، وخوفهم من أن يحل بهم ما حل بإخوانهم في بيت المقدس والجليل، قد أسهم في تحفيزهم على الطلب من المسلمين المشاركة في الدفاع عن المدينة.
تنوعت أوضاع اليهود وأدوارهم في بلاد الشام بعد احتلال الصليبيين لها بحسب الإقطاعيات التي أقاموا فيها. يشرح الأغا، أن أكبر الجماعات اليهودية في مملكة بيت المقدس كانت تقيم في مدن عسقلان وصور وعكا، نظراً لأن تلك الجماعات لا سيما المقيمة في عسقلان وصور لم تتعرض للإبادة والقتل على يد الصليبيين، كما هو الحال في المدن الأخرى، خصوصاً في بيت المقدس.
وظلت الجالية اليهودية في عسقلان تحت الحكم الصليبي حتى تخريبها زمن صلاح الدين 587هـ/ 1191م، خلال أحداث الحملة الصليبية الثالثة.
أما في بيت المقدس، فقد مُنع اليهود من الإقامة فيها، غير أنه في العقد الثاني من القرن السادس الهجري/ الـ12 الميلادي سمح الملك بلدوين الأول لليهود بالإقامة فيها، كما سمح لهم أن يؤدوا اليمين على التوراة في حال دخولهم المحكمة.
ورغم أن المملكة الصليبية لم تشهد مذابح جماعية ضد اليهود خلال الفترة التي أعقبت تأسيس مملكة بيت المقدس، فإن أعداد اليهود ظلت في مستويات أقل من الفترة التي أعقبت احتلال فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة.
بعد فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس سنة 583هـ/ 1187م سُمح لليهود بالهجرة والسكن فيها، وأظهر من التسامح والعفو معهم ما جعل المؤرخين يذكرونه بالثناء والتقدير، ويبدو أنه قام بذلك على أمل أنهم سوف «يكونون حلفاء حقيقيين» له في حال قدوم حملة صليبية جديدة، بحسب ما ذكر الأغا.
ولم تقتصر سياسة التسامح تجاه اليهود على عهد صلاح الدين، بل واصل خلفاؤه من السلاطين السياسة نفسها. ونتيجة لهذه العودة استعاد اليهود نشاطهم التجاري القديم، لا سيما أن الدولة الأيوبية لم تضع أي قيود عليهم بل سمحت لهم بحرية العمل والعبادة.
وبحسب براور في كتابه المذكور آنفاً، فإن ثلاث فئات من اليهود استقرت في القدس بعد تحريرها، وهم العسقلانيون الذين انتقلوا إليها بعد أن خرب صلاح الدين أسوارها في 587هـ/ 1191م، ويهود المغرب الذين فروا إلى الشرق حوالي عام 595هـ/ 1198م، ويهود فرنسا الذين ضموا حوالي 300 عائلة وهاجروا على دفعتين ما بين 606-608هـ و1209-1211م، كما تدفقت أعداد كبيرة من اليهود في السبعينيات والثمانينيات من القرن السابع الهجري/ الـ13 الميلادي واستقرت جماعات منهم في الجليل وفي المدن الساحلية.
وعندما سُلّمت القدس إلى فريدريك الثاني 627هـ/ 1229م استؤنف العمل بالتشريعات المعادية لليهود، التي كانت سائدة في فترة الصليبيين، فمُنع اليهود من السكن في المدينة مرة أخرى، ولكن بعد المفاوضات سُمح لعائلة يهودية واحدة بالسكن في القدس لتكون دارها محطة للحجاج اليهود الذين يسمح لهم بزيارة المدينة.
ولكن يبدو أن اليهود عادوا للإقامة مرة ثانية في مدينة القدس بعد تحريرها على يد الناصر داوود سنة 637هـ/ 1239م، إذ تشير المصادر الإسلامية إلى وجود حارة لليهود داخل أسوار المدينة.
وفي المناطق التي ظلت خاضعة للسيطرة الصليبية كانت عكا المدينة الرئيسية لاستقرار اليهود عاشت فيها جالية كبيرة يترأسها حبر من طائفة الربانيين، وقد استقروا في حي «مونتميزارد» الذي أُنشئ عقب انحصار حدود المملكة الصليبية إثر معارك التحرير التي خاضها صلاح الدين.